سورة التوبة - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)}.
التفسير:
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها أنها تعرض صورة مشرقة للمؤمنين، الذين يتجلّى عليهم اللّه سبحانه وتعالى برضوانه، وينزلهم منازل فضله وإحسانه، وذلك بعد أن عرض في الآية السابقة عليها صورة مضيئة، انبثقت من بين ظلام البداوة، وطلعت من مهابّ سمومها وهجيرها.
فالسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان- هم الإنسانية الكريمة الوضيئة، يتمثل فيهم كل ما يمكن أن تعطيه الإنسانية من ثمر طيّب مبارك.. فهم من الإنسانية بمنزلة هذه القلّة من أعراب البادية، الذين خلصوا من كدر البادية، وسلموا من أدرانها وأوضارها.
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار.. هم الذين سبقوا إلى الإسلام، فكانوا الكوكبة الأولى التي تقدمت ركبه الميمون، وكانوا الكواكب الدّريّة التي بين يد فجره الوليد.. أولئك هم الذين حملوا أعباء الدعوة الإسلامية، واحتملوا- في صبر ورضا- مواجهة العاصفة التي هبّت عليهم عانية مزمجرة، تحمل في كيانها جهالة الجاهلية، وحماقاتها، وسفاهاتها، وعتوّها وضلالها.. فكان لهم عند اللّه هذا المكان الكريم، وتلك المنزلة التي اختصهم بها، وأفردهم فيها.
فمن أراد أن يلحق بهم ويضاف إليهم، فسبيله إلى ذلك أن يقفو أثرهم، ويتبع سبيلهم، ويحسن كما أحسنوا، ويبلى كما أبلوا.. فذلك هو الثمن لمن يطلب رضا اللّه، ويطمع في أن يكون مع أحبابه وأصفيائه.. فيكون بهذا مضافا إليهم مع الذين اتبعوهم بإحسان.
وفى قوله تعالى: {بِإِحْسانٍ} هو قيد مؤكّد، يكشف عن الإحسان الذي يكون من متابعة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والتأسّى بهم.
فمتابعتهم هى إحسان، وقوله تعالى: {بِإِحْسانٍ} هو توكيد لهذا الإحسان الذي تنطوى عليه المتابعة.. وهذا يعنى أن ما كان من السابقين من المهاجرين والأنصار، هو إحسان كلّه، فمن تابعهم، وتأسّ بهم على ما كانوا عليه، فهو محسن.. كل الإحسان!.
وقوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} هو عرض كاشف لمنزلة هؤلاء الصفوة من عباد اللّه، وأنّ اللّه رضى عنهم، بما كان منهم من إحسان، وأنّهم رضوا، بما أرضاهم اللّه به، ونعموا فيه.
وفى قوله تعالى: {وَرَضُوا عَنْهُ} رضوان فوق رضوان من عند اللّه، يحفّهم به، ويزيدهم نعيما إلى نعيم.. إذ جعل اللّه سبحانه وتعالى رضاهم عنه بما أعطاهم معادلا لرضاه عنهم، حتى لكأنه سبحانه وتعالى، يتبادل الرضا معهم، فيرضى عنهم، ويرضون عنه.. فسبحانه، ما أعظم لطفه، وما أوسع فضله، وما أكرم عطاءه، وأسبغ إحسانه! قرئ: {والأنصار} بالرفع. على الاستئناف.
وفى هذه القراءة يكون قوله تعالى {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ} مقصورا على المهاجرين وحدهم.. وهذه القراءة ينقضها التفسير العملىّ للآية الكريمة التي احتج بها أبو بكر رضى اللّه عنه على الأنصار، وجعلها مستنده في تقديم المهاجرين على الأنصار، فقال في خطبة يوم السقيفة مخاطبا الأنصار: أسلمنا قبلكم، وقدّمنا في الكتاب عليكم، فقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ} فنحن الأمراء، وأنتم الوزراء.
وهذا يعنى أن الأنصار شركاء للمهاجرين في هذا الفضل، الذي تطلب الخلافة به، وأن المهاجرين إذا كانوا أولا، فالأنصار ثانيا، كما جاء ذكرهم في القرآن الكريم: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ} فذكر المهاجرون أولا، ثم الأنصار ثانيا.
وإذا كانت واو العطف النحوية لا تفيد ترتيبا، ولا تعقيبا، فإن واو العطف القرآنية، تفيد ترتيبا وتعقيبا.. هكذا دائما. في كل مقام وقع فيه العطف بين متعاطفين أو أكثر.
وأما قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ}.
فهو معطوف كذلك على ما قبله عطف نسق، بمعنى أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوا السابقين من المهاجرين والأنصار، هم جميعا ممن رضى اللّه عنهم ورضوا عنه، وأعدّ لهم جنات تجرى تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا.. وإن كان ثمة تفاضل فهو في الدرجة، وليس في الرتبة.
والأنصار أعنى السابقين الأولين منهم، وهم الذين بايعوا النبىّ بيعتى العقبة.
الأولى والثانية قبل الهجرة، والذين استجابوا له، وأقاموا المجتمع الإسلامى الأول بالمدينة، وكانوا حصن الإسلام والمسلمين- هؤلاء جديرون بأن يشاركوا المهاجرين الأولين منزلتهم، وأن يزاحموهم بالمناكب عليها، وإن كان فضل اللّه أوسع وأرحب من أن يقع في رحابه زحام أو صدام.
وكذلك الذين جاءوا من بعد المهاجرين الأولين والأنصار، وسلكوا طريقهم، وساروا سيرتهم، هم جديرون بأن يلحقوا بهذا الركب الميمون، وأن يكونوا منه غير بعيد.
فإذا كانت مع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار آيات النبوّة، ونفحات النبىّ، فسبقوا إلى الإيمان، ودانوا له، وأعطوه ولاءهم كاملا، حتى اشتمل عليهم ظاهرا وباطنا، وكان حريّابهم أن يبلغوا من الصفاء والشفافية واليقين ما بلغوا، مما تتقطع دونه الأعناق- إذا كان ذلك كذلك، فإن الذين يجيئون من بعدهم في أجيال الإسلام المتعاقبة إلى يوم القيامة، ويؤمنون إيمانا أقرب إلى إيمانهم، ويأخذون سمتا مدانيا لسمتهم- هم أهل لأن يلحقوا بهم، وأن ينزلوا منزلتهم، إذ أنهم آمنوا وأحسنوا، ولا نبوة بين أيديهم، ولا نبىّ يملأ حياتهم هدى ونورا.
يقول ابن مسعود رضى اللّه عنه: إنّ أمر محمد كان بيّنا لمن رآه.
والذي لا إله غيره ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب، ثم تلا قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} هذا وقد جاء ذكر هؤلاء الصفوة من المؤمنين، من السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان- جاء ذكرهم على هذا الترتيب في قوله تعالى: {لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} [8- 10: الحشر].
وهكذا الإسلام، طريقه مفتوح دائما لأصحاب النفوس الطيبة، والقلوب السليمة، والعزائم الصادقة، يرتادون فيه منازل الرضوان، وينزلون منها حيث يبلغ جهدهم، وتحتمل عزماتهم.. وهكذا يدخل المسلمون جميعا، بل الناس جميعا، تحت قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ}.
ففى ذلك فليتنافس المتنافسون، ولهذا فليعمل العاملون.. قوله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ} بعد هذه الصورة المشرقة التي عرضتها الآية السابقة لأهل السبق والإحسان وما أعدّ لهم من نعيم، وما أسبغ عليهم من رضا- جاءت هذه الآية لتعرض صورة معتمة طامسة، لأهل الزيغ والضلال، وتكشف عن وجوه منكرة للإنسانية حين تفسد فطرتها، وتشوه معالم إنسانيتها.. وذلك ليكون لهؤلاء المنافقين الضالين نظر في أنفسهم، ورجعة إلى ربهم، إن كانت قد بقيت فيهم بقية صالحة لنظر واعتبار.
ففى الأعراب الذين حول المدينة منافقون، وفى المدينة ذاتها منافقون.
وهؤلاء وأولئك جميعا قد مردوا على النفاق، أي شبوا عليه، ورضعوا أخلاقه وهم شباب مرد، فمرنوا عليه، وخف عليهم محمله، إذ شب معهم وصار بعضا منهم، أشبه بالجارحة من جوارحهم.
وفى قوله تعالى {لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} تهديد ووعيد لأولئك المنافقين الذين برعوا في النفاق، وصاروا أساتذة فيه، حتى لا يكاد يطلع عليهم أحد، وهم يتعاملون به، ويتعاطون كئوسه مترعة! ولكن اللّه يعلمهم، وهو- سبحانه- الذي يتولى حسابهم ويأخذهم بذنوبهم، بل ويفضحهم في هذه الدنيا، بما ينزل من آيات فيهم.
وقوله تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ}.
اختلف المفسرون في عذاب المنافقين مرتين.. ولم نجد عندهم ما نرضاه ونستريح إليه.
ونقول- واللّه أعلم-: إن عذاب المنافقين مرتين هو في النصر الذي يتحقق للإسلام، وفى المغانم التي تمتلىء بها أيدى المسلمين، هذا عذاب من أحد العذابين، الذي تتقطع به قلوب المنافقين كمدا وحسرة.. أما العذاب الآخر، فهو ما يصيبهم في أنفسهم من بلاء على أيدى المؤمنين، حيث يجرفهم تيار الإسلام، ويزعج أمنهم وسلامتهم، ويخرجهم من ديارهم وأموالهم كما حدث مع اليهود.
أما العذاب العظيم الذي يردّون إليه بعد هذين العذابين، فهو عذاب الآخرة، {يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [55: العنكبوت] قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
هو إشارة إلى صنف آخر من الذين نافقوا في غزوة تبوك، فتخلفوا عنها بأعذار ملفّقة، وتعللوا بتعللات كاذبة، وقد وقع في أنفسهم النّدم على ما كان منهم، وجاءوا إلى النبىّ معترفين بذنوبهم، ومنهم الثلاثة الذين خلّفوا، والذين ذكرهم اللّه بعد ذلك في قوله سبحانه: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا}.
فهؤلاء المخلّفون، قد خلطوا عملا صالحا كان منهم قبل هذا التخلف، بآخر سيّىء، هو هذا التخلف عن رسول اللّه وعن المؤمنين في غزوة تبوك.
وفى قوله تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} دعوة لهم إلى المبادرة بالتوبة، والانخلاع مما تلبّسوا به من خلاف للّه ولرسوله.
فإنهم إن أخلصوا نيّاتهم، وأخلوا قلوبهم من وساوس النفاق، ورجعوا إلى اللّه تائبين- كانوا بمعرض الصفح والمغفرة، فإنهم يطلبون الصفح والمغفرة من رب غفور رحيم.
قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} هو تحريض للمؤمنين عامة، ولهؤلاء المذنبين خاصة على البذل والإحسان في سبيل اللّه، فإن إنفاق المال في سبيل اللّه هو عدل الجهاد بالنفس، وهو تطهير للمتصدق، وتزكية له من الأوضار والآثام التي تعلق به.
وفى قوله سبحانه: {مِنْ أَمْوالِهِمْ} إشارة إلى أن المطلوب بذله في وجوه الإحسان من المال، هو بعضه لا كلّه، وفى ذلك رحمة بالناس.
وفى قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} أكثر من إشارة:
فأولا: أن في صلاة النبىّ على المتصدّق، ودعائه له، مجازاة عاجلة بالإحسان، يجد المتصدّق أثرها في نفسه، وبردها على قلبه، فيشيع في كيانه الرضا، وتملأ قلبه السكينة.
وهذا أدب ينبغى أن يتأدب المسلمون به، فيلقون إحسان المحسن بالحمد والشكران، فإن ذلك أقلّ ما يجزى به، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ}.
وبهذا تتفتح النفوس للخير، وتسخو الأيدى بالإحسان.
وثانيا: أن الإحسان في ذاته جدير بأن يحمد للمحسن في كلّ إنسان، سواء أصابه شيء من هذا الإحسان أم لم يصبه، فهو عمل طيب، وصنيع مبرور، وكما ينبغى على المؤمن أن ينكر المنكر لذاته، كذلك يجب عليه أن يحمد المعروف لذاته.. وبهذا يشيع في الناس الخير، وتتكاثر أعداد المتعاملين به.
والرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- إنما يدعو للمتصدقين، ويصلّى عليهم، لا لأنه يحتجز صدقاتهم لنفسه، ويضمها لذات يده، وإنما لأنها خير مبذول في وجوه الخير، وبرّ مرسل في سبيل اللّه.
وهو- صلوات اللّه وسلامه عليه- قائم على رسالة الخير والبرّ.
هذا، وقد قيل في سبب نزول هذه الآية: إن الثلاثة الذين خلّفوا، حين اعترفوا بذنوبهم، ونزل في قبول توبتهم قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا}، جاءوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم بأموالهم، فقالوا: هذه أموالنا التي خلّفتنا عنك، فخذها وتصدّق بها عنا، فقال النبىّ: «ما أمرت» فنزلت الآية: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً}.
وهذا سبب غير واضح، وغير مناسب لهذا الموقف، فإذا كان اللّه سبحانه وتعالى قد كرّم هؤلاء الثلاثة الذين خلّفوا، وقبل توبتهم، وأنزل في ذلك قرآنا، فكيف لا يقبل الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه ما يقدّمون من صدقات؟ أليسوا مؤمنين؟ أليسوا ممن تجب عليهم الزكاة؟ أليسوا ممن يطلب إليهم الإحسان ويقبل منهم.؟
والذي نستريح إليه، هو أن الآية أمر مطلق ببذل الصدقات، وأن مناسبة ذلك هو ما عرض من آثام المنافقين وجرائمهم، فناسب ذلك أن يجىء الأمر بالدعوة إلى الزكاة، التي من شأنها تطهير الآثمين.. وفى توجيه الأمر للنبى صلوات اللّه وسلامه عليه بقبولها، تحريض للمسلمين على أدائها، وإشارة دالّة على اليد الكريمة التي تتناولها منهم، والجزاء الحسن الذي تجزيهم به.
وليس هذا فحسب، بل إن اللّه سبحانه وتعالى هو الذي يتقبل منهم صدقاتهم، كما تشير إلى ذلك الآية التالية.
قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
في الآية وعد كريم من اللّه سبحانه وتعالى بأنه يقبل التوبة عن عباده. فيلقى التائب منهم بالقبول والمغفرة، ويتقبل ما يقدّم من صدقة.. وهذا ينقض ما قيل في سبب نزول الآية: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً}.
كما أشرنا إلى ذلك من قبل.. فإن من قبل اللّه توبته، لم يردّ صدقته.
والاستفهام هنا تقريرى، وضمير الفصل هو توكيد لاختصاص اللّه سبحانه وتعالى وحده بقبول التوبة، ومنح العفو والغفران.. وليس ذلك لغير اللّه.
وفى قوله تعالى {يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ} ما يسأل عنه، وهو:
لم عدّى الفعل {يقبل} بحرف الجرّ {عن} مع أن الاستعمال اللغوي لهذا الفعل لم يجىء متعديا إلّا بحرف الجرّ من.
كما جاء ذلك في الاستعمال القرآنى لهذا الفعل في قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وفى قوله سبحانه: {إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
.. فلم عدّى الفعل هنا بحرف الجر عن؟
الجواب- واللّه أعلم- أن التوبة التي يقبلها اللّه من عباده تضع عنهم ما حمّلوا به من أوزار، وما أثقل كاهلهم من ذنوب، فكان في قبول التوبة منهم رفع لهذه الآثام عنهم، ولهذا ضمن الفعل {يقبل} معنى الفعل يضع، أو يسقط.. ونحو هذا، كما نظر إلى التوبة على أنها شيء محمّل بالذنوب والآثام لأن التوبة لا تكون إلا عن ذنب وقع، أو إثم اقترف.. فكان قوله تعالى: {أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ} يعنى ألم يعلموا أن اللّه يضع الذنوب والآثام عن عباده. ويرفعها عن كواهلهم؟. وقوله تعالى: {وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ} إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى هو الذي يأخذ صدقات المتصدقين ويجزيهم عليها، وأن النبىّ إذ يأخذها منهم، فإنما يأخذها بأمر اللّه، وينفقها في سبيل اللّه، وكذلك كل صدقة يأخذها متصدّق عليه من متصدّق.. إنها للّه، لا للمتصدّق عليه، وهو سبحانه الذي يجزى عليها كما يقول اللّه سبحانه وتعالى: {قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [88: يوسف]. وفى هذا يقول النبىّ صلوات اللّه وسلامه عليه: «إن الصدقة تقع في يد اللّه قبل أن تصل إلى يد السائل».
قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
هو دعوة عامة للمبادرة إلى العمل في مجال الخير والإحسان.. وفى العمل في هذا المجال يعرف العاملون بأعمالهم.. فما كان في السرّ أو الجهر يعلمه اللّه، وما كان في الجهر يعلمه الرسول ويعلمه المؤمنون، وعلى حسب هذه الأعمال يجزى اللّه، ويضع المحسنين، والمقصرين، والمسيئين، كل منهم في منزلة، ويجزيه الجزاء الذي هو أهل له.. وعلى ما يظهر من هذه الأعمال الرسول وللمؤمنين، يكون قرب العاملين أو بعدهم من رسول اللّه ومن المؤمنين، ويكون حسابهم معهم، من موالاة أو معاداة.
هذا في الدنيا، فإذا كانت الآخرة كشف الغطاء عن أعمال العاملين، خيرها وشرها، وجوزوا عليها بالإحسان إحسانا، وبالسوء سوءا.
قوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
الإرجاء: التأخير والانتظار،.. يقال: أرجأت الأمر وأرجيته، أي أخرته.. ومرجون لأمر اللّه، أي مؤخرون ومنظرون لما يقضى به اللّه فيهم.
قيل نزلت هذه الآية في الثلاثة الذين خلفوا، وهم كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وهم من الأنصار، وكانوا قد تخلفوا في غزوة تبوك، ولم يكن لهم عذر، ولم يكن هذا التخلف عن نفاق. ولكن عن توان وفتور، وتردد.. فلما رجع النبي صلى اللّه عليه وسلم من تبوك تلقاه المنافقون بأعذارهم، فقبلها منهم، وتركهم لحسابهم مع اللّه.. وأما هؤلاء الثلاثة فإنهم صدقوا الرسول فيما قالوا إذ قالوا: «واللّه يا رسول اللّه مالنا من عذر نعتذر به» وكانوا حين تخلّفوا عن رسول اللّه قد استشعروا الندم. فأوثقوا أنفسهم بسوارى المسجد، وأقسموا ألا يطلقوا أنفسهم منها، حتى يكون رسول اللّه هو الذي يطلقهم، فلما رجع الرسول، وأخبر خبرهم، قال: «وأنا أقسم لا أكون أول من حلّهم إلّا أن أومر فيهم بأمر».
فلما نزل قوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} عمد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فحلّهم.. ونهى رسول اللّه المسلمين عن مكالمتهم، وأمر نساءهم باعتزالهم.. حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وأقاموا على ذلك خمسين ليلة، ثم نزل قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} فكان ذلك إيذانا بقبول توبتهم.
هذا مما أجمع عليه المفسّرون.
غير أن لنا في الآية رأيا آخر، وهو أنها تكشف عن جانب من رحمة اللّه بعباده، وتفضله على المذنبين العصاة منهم، وهم الذين لم يتوبوا إلى اللّه، ولم ينزعوا عما اقترفوا من إثم.. فهؤلاء مذنبون عصاة، ينتظرون حكم اللّه فيهم، إن شاء أخذهم بذنوبهم فعذّبهم، وإن شاء عاد بفضله عليهم، فعفا عنهم، هكذا كرما منه وفضلا.. وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [56: يوسف] ولا يردّ على هذا، بأنّ ذلك مما يبطل عمل العاملين، ويسوّى بين المحسنين والمسيئين، كما أنه يناقض قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى} وقوله سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
ونقول: إن اللّه سبحانه وتعالى بإحسانه إلى المسيئين، وتجاوزه عن سيئاتهم لا يجور على عمل المحسنين، ولا ينقص من إحسانهم شيئا، بل إنه سبحانه يوفّيهم أجرهم غير منقوص، كما يقول سبحانه: {وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
أما التسوية بين المحسنين والمسيئين: فليست واقعة على إطلاقها.. وذلك:
أولا: أن المحسن مجزىّ بإحسانه، بلا شك، كما يقول سبحانه: {وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.
أما المسيء فهو في منزلة بين منزلتين: إما أن يأخذه اللّه بذنبه، وهذا هو الوجه الذي يطلّ عليه من سوء عمله، وإما أن يتجاوز اللّه عنه، ويعود بفضله عليه، وهذا هو الوجه الذي يطلع عليه من رحمة ربّه! وثانيا: أنه ليس إحسان المحسن وحده هو الذي يدخله الجنة، وإنما قبل ذلك كلّه، هو شموله برحمة اللّه، كما في الحديث الشريف: «لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، قيل ولا أنت يا رسول اللّه؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدنى اللّه برحمته».
رحمة اللّه التي وسعت كلّ شىء.. تنال البر والفاجر.
وثالثا: ليس المحسنون والمسيئون على سواء من رحمة اللّه.. فالمحسنون أقرب إليها، وأكثر تعرضا لها، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.
والمسيئون وإن يعدوا عن رحمة اللّه، فليس ذلك بالذي يحجبهم عنها، ويحرم بعض المسيئين منهم حظهم منها، وذلك لمشيئة اللّه فيهم، وإرادته بهم.. كما يقول سبحانه: {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ}.
وأما قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى} وقوله سبحانه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
فهو الميزان الذي يوزن به عمل كل عامل، وسعى كل ساع.. ومع هذا، فإن اللّه يضاعف للمحسنين إحسانهم، وأنه سبحانه إذ يرى المحسن عمله لا يقف به عند هذا العمل، بل يفضل عليه بأضعاف ما عمل.
وكذلك المسيء، إذا كان لا يقدم على اللّه إلا بما سعى، وما حصّل من سيئات، فإنه ليس من حرج على فضل اللّه أن يتجاوز عنه.. ليرى آثار رحمة اللّه فيه.. وذلك رهن بمشيئة اللّه وتقديره.. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
يقضى بعلم، ويحكم بحكمة.. واللّه سبحانه وتعالى يقول على لسان المسيح عليه السلام: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.


{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)}.
التفسير:
الضّرار: المضارّة، وطلب إلحاق الضرر بالغير، والإرصاد:
الترقب والتربص، والانتظار.. وشفا جرف: أي حافة الجرف وشفيره.
والجرف: رأس الهاوية المطلّ على منحدرها.. والهارى: المنهار.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ}.
قرأ أهل المدينة: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا} بغير واو العطف، وذلك على الاستئناف وابتداء عرض وجه آخر من وجوه المنافقين.
وقرىء بالعطف، وهو القراءة المشهورة وعليها تنتظم وجوه المنافقين في سلك واحد، على تقدير: ومنهم الذين اتخذوا مسجدا ضرارا.
وقوله تعالى: {ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ}.
المنصوبات المتعاطفة هنا هى مفعول لأجله، تكشف عن السبب الذي لأجله بنى هذا المسجد، وهو للمضارة، لا للنفع، وللكفر لا للإيمان، ولإيواء من حارب اللّه ورسوله، لا لدعوة من آمن باللّه ورسوله.
قيل إن هذا المسجد بناه جماعة من المنافقين، من بنى غنم بن عوف، حسدا لبنى عمهم عمرو بن عوف، الذين كانوا قد بنوا مسجد قباء، ودعوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يصلّى فيه، فأجابهم، وصلى المسلمون معه.
فكان أول مسجد بنى في الإسلام.
وحين أتم بنو غنم بناء هذا المسجد إلى جوار مسجد قباء، جاءوا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، يدعونه أن يصلى في مسجدهم هذا، وكان النبىّ يتهيأ لغزوة تبوك، فقال لهم: «إنى على جناح سفر، فلو قدمنا أتيناكم، إن شاء اللّه، فصلينا لكم فيه».
فلما انصرف الرسول من تبوك، نزلت عليه هذه الآية وهو في طريق العودة إلى المدينة.
وقد فضح اللّه في هذه الآية نفاق هؤلاء المنافقين، وكشف عن تدبيرهم السيّء.. فإنهم ما بنوا هذا المسجد ليكون بيتا من بيوت اللّه، وإنما بنوه مضارّة بمسجد قباء، حتى لا يعمر بالمصلين، وليكون مأوى يأوى إليه المنافقون، ويدارون نفاقهم بالاجتماع فيه، والاستظلال بظلّه، ثم ليفرقوا بين المؤمنين، حيث لا تجتمع جماعتهم في مكان واحد، بل يتوزعهم المسجدان المتجاوران، فيقلّ بذلك جمعهم، وتصغر في الأعين جماعتهم، الأمر الذي يخالف ما يدعو إليه الإسلام من جمع المسلمين في صلاة الجماعة والجمعة والعيدين، لتتوحد مشاعرهم، وتمتلىء العيون مهابة وإجلالا لهم.. ثم إنهم بنوا هذا المسجد ليكون راية منصوبة لأهل النفاق والضلال، حيث لا يخطئهم أن يجدوا فيه- في أي وقت- من هم على شاكلتهم في نفاقهم وضلالهم.
قوله تعالى: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ}.
المنافقون هكذا دائما يتخذون أيمانهم جنّة يحتمون بها من نظرات الاتهام التي يرمون بها، أو يقدّرون أنهم يرمون بها من كل عين تنظر إليهم.. وهؤلاء الذين فضحهم اللّه وأخزاهم بما كشف من سوء تدبيرهم، يحلفون للرسول وللمؤمنين أنهم لا يريدون بهذا المسجد لذى بنوه إلا ما يراد من بناء المساجد وعبادة اللّه فيها.. وقد كذبهم اللّه سبحانه بقوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ} وصدق اللّه العظيم، وكذب المنافقون، ولعنوا.
هذا وقد أمر الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- بعض أصحابه بهدم هذا البنيان، فهدموه.
قوله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}.
هذا نهى للنبىّ الكريم أن يلمّ بهذا المسجد، أو أن يتلبّث عنده، فإنه وإن أخذ سمت المساجد، وسمّى اسمها، فلن يشفع له ذلك في أن يكون على طهر المساجد وقدسيتها، لما وسمه به المنافقون من دنس ورجس.. فكما يظهر المنافقون في سمت الآدميين، ويأخذون مظاهر الناس.. ثم لم يكن لهم من الإنسانية نصيب إلا هذا السّمت الظاهر، أما حقيقتهم فإنهم دنس ورجس- كذلك كان شأن البنيّة التي بنوها، وأطلقوا عليها اسم المسجد.. إنها لا تمثل من المسجد إلا وجهه الظاهر، أما باطنها فكفر ونفاق وضلال!- وفى قوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ.. فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} تنويه بمسجد قباء، وتكريم له، ورفع لقدره، وقدر الذين بنوه، والذين يلقون اللّه فيه- بقدر ما هو إزراء بأصحاب مسجد الضرار، وتشنيع عليهم، وعلى هذا البناء الذي رفعوه فهدمه اللّه عليهم.
والمراد بالرجال الذين يحبّون أن يتطهروا، هم الذين يلقون اللّه في الصلاة في هذا المسجد.. فهى صلاة مقبولة، في مكان طاهر تؤدى فيه عبادة خالصة للّه، من شأنها أن تطهّر أهلها، الذين يداومون عليها، ويقيمونها بقلوب مؤمنة، خالية من الرياء والنفاق.
قوله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
قرىء: {أفمن أسس بنيانه} ببناء الفعل للمجهول، كما قرئ {أُسِّسَ} في الموضعين، جمع أسّ، بمعنى الأصل والأساس.
والآية تعرض المسجدين، مسجد قباء، ومسجد الضرار، في وضع يواجه فيه أحدهما الآخر.. فيكشف ذلك عن مدى ما بينهما من تفاوت.. هذا عذب فرات سائغ شرابه، وهذا ملح أجاج.. هذا طيب، أطيب الطيب، وهذا خبيث، أخبث الخبث.
والضدّ إذا قرن بضدّه، زاد كل منهما في الصفة الغالبة عليه زيادة لا ترى إلا حيث يتقابل مع ضده.. فيزداد الحسن حسنا وروعة، ويزداد القبيح شناعة وقبحا.. وبضدها تتميز الأشياء- كما يقولون!- وفى قوله تعالى: {فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ} تصوير للعاقبة التي ينتهى إليها هذا المسجد- مسجد الضرار- بأهله الذين بنوه، وأنه إذ بنوه على ضلال ونفاق وزيف، فهو بناء على خواء.. على شفا جرف هار، وأنه إذ ينهار فسينهار بهم في نار جهنم، فهم بهذا قد ظلموا أنفسهم: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
وقوله تعالى: {لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
نفى القرآن في هذه الآية عن مسجد الضرار، كلّ ما تتسم به المساجد، حتى اسمه، فلم يعد مسجدا بعد أن فضحه الإسلام، وفضح أهله، وكشف عن الوجه الذي قام عليه، والغاية التي بنى من أجلها.. فهو الآن بنيان مجرد بناء من حجر وطين.. لا يناله حتى شرف هذا الاسم الزائف الذي أعطوه إياه.
وسيظل هذا البناء ريبة في قلوب الذين بنوه، أي مبعث شك، وارتياب ونفاق، قد علق ذلك كله بقلوبهم، وتمكن منها، لا يستطيعون فكاكا منه، إلا بعد أن تتقطع قلوبهم.. وهذا لا يكون إلا إذا ماتوا، وماتت الريبة معهم!.
وفى قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ} إشارة إلى أن الريبة قد استقرت في قلوبهم، فاحتوتها هذه القلوب، وصارت ظرفا حاويا لها.


{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)}.
التفسير:
ليس الإيمان مجرد نطق باللسان، وتصديق بالقلب، وإنما هو- مع هذا- عمل بالجوارح، وابتلاء في الأموال والأنفس.. فمن صدّق قلبه ما نطق به، ومن صدق عمله ما صدّق به قلبه، فذلك هو المؤمن، الذي يقبله اللّه في المؤمنين.
وبين اللّه والمؤمنين باللّه، عقد عقده معهم، وعهد عاهدهم عليه.. وهو أنه- سبحانه- اشترى منهم أنفسهم وأموالهم ولهم عنده في مقابل ذلك الجنة! وما تلك الأنفس، وهذه الأموال التي اشتراها اللّه من المؤمنين؟ إنها من اللّه، وإلى اللّه..!
ولكن شاء فضل اللّه أن يجعل لعباده ملكية هذه الأنفس، وتلك الأموال، وأن يشتريها منهم، وأن يعوضهم عليها! وقدّمت الأنفس على الأموال هنا على خلاف المواضع كلها التي جاء فيها ذكر الأموال والأنفس مجتمعين في القرآن.. ففى جميع المواضع ما عدا هذا الموضع قدمت الأموال على الأنفس! فما سرّ هذا؟ أو قل ما أسرار هذا؟
ونقول- واللّه أعلم- إن بعض السر في هذا هو أن اللّه سبحانه وتعالى، هو الذي يطلب الأنفس والأموال في هذا المقام، على حين أنه في جميع المواضع التي ذكرت فيها الأنفس والأموال في القرآن الكريم- كانت مبذولة من المسلمين، أو مطلوبا منهم بذلها..! ولاختلاف المقام اختلف النظم.. ففى شراء اللّه سبحانه وتعالى ما يشترى من المؤمنين يقدم الأنفس على الأموال لأنها عند اللّه أكرم وأعز من المال، على حين أن المال عند الناس أعز من الأنفس، إذ يتقاتلون من أجله، مخاطرين بأنفسهم ويقتلون أنفسهم في سبيله! وفى اختلاف النظم هنا إلفات للناس إلى ما ذهلوا عنه من أمر أنفسهم، إذ استرخصوها إلى جانب المال، على حين أنها شيء كريم عزيز عند اللّه.
وفى قوله تعالى: {يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} إشارة إلى أن من شأن المؤمن أن يكون له يد ظاهرة على عدوه، وبلاء مؤثّر فيه، وأنه قبل أن يقتل لا بد أن يقتل من عدوه واحدا أو أكثر، حتى لا يذهب دمه هدرا، وحتى بوهن العدو ويضعف من شوكته، ويكتب بدمه حرفا من كلمة النصر التي كتبها اللّه للمؤمنين.
وقوله تعالى: {وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ.. وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ}.
؟ هو توكيد لما وعد اللّه المؤمنين الذين باعوه أموالهم وأنفسهم بأن لهم الجنة، فهذا الوعد حق لا مرية فيه- كما جاء به القرآن والتوراة والإنجيل.
فذلك هو وعد اللّه للمؤمنين المجاهدين، فيما جاءت به الكتب السماوية المنزلة من رب العالمين.. {وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ}؟ وهل يخلف اللّه وعده، أو ينقض عهده؟ تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.
هذا وليس بيع الأنفس والأموال للّه مرادا به بذلهما في القتال في سبيل اللّه ثم الوقوف بهما عند تلك الغاية وحدها.. فإذا لم يكن بين يدى المؤمن قتال ومجاهدة للعدو، فهناك ميدان فسيح للجهاد في سبيل اللّه في غير ميدان القتال، فمجاهدة النفس والوقوف بها عند حدود اللّه، هو جهاد مبرور في سبيل اللّه.
والعبادات بأنواعها، وأداؤها على وجهها جهاد في سبيل اللّه، والسعى في تحصيل الرزق من وجوهه المشروعة، جهاد في سبيل اللّه.. والبر بالفقراء، والإحسان إلى اليتامى.. هو جهاد في سبيل اللّه.
وإذا كانت الآية الكريمة قد خصّت القتال في سبيل اللّه بالذكر هنا، فليس ذلك إلا تنويها يفضل الجهاد في ميدان القتال، إذ يمثل الصورة الكاملة التي يبذل فيها المرء كل ما يملك، ويقدم للّه فيها كل ما معه من نفس ومال.
على خلاف أبواب الجهاد كلها، فإنه يبذل بعضا من كلّ، ويقدم للّه بعضا ويستبقى بعضا.
وقوله تعالى: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
هو مباركة من اللّه سبحانه وتعالى لأولئك المؤمنين الذين باعوا أنفسهم وأموالهم له- مباركة بهذه الصفقة التي عقدوها مع اللّه، وتبشير لهم بالربح العظيم، والمغنم الجزيل الذي وراءها.. إنها الجنة التي وعدهم اللّه بها وإنها الرضوان من رب العالمين.. وذلك هو الفوز العظيم.
قوله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}.
تلك هى صفات المؤمنين الذين يؤهلهم إيمانهم لأن يبايعوا اللّه، وأن يعقدوا معه هذه الصفقة الرابحة، وأن يظفروا بهذا المغنم العظيم.
فقوله تعالى: {التَّائِبُونَ} صفة للمؤمنين في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} والتقدير {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} الذين هم التائبون العابدون الآية.
والتائبون: هم الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللّه فاستغفروا لذنوبهم، وتابوا إلى اللّه من قريب.. والعابدون: هم الذين يقرّون بالعبودية للّه، ويعبدونه مخلصين العبادة له وحده.. والحامدون: هم الذين يحمدون اللّه على الضراء حمد هم إياه على السّرّاء.. يقولون كلّ من عند ربنا، وكل ما هو من عنده فهو- سبحانه- المحمود، الذي يستأهل وحده الحمد، ويستوجب الرضا في السراء والضراء.. والسائحون: هم الصائمون.. وفى الحديث «سياحة أمّتى الصيام».
والراكعون الساجدون: هم الذين يقيمون الصلاة، ويؤدون ما افترض اللّه عليهم منها.
والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر: هم الذين يدعون إلى الخير، وينهون عن الشر.. وقد جاء العطف بينهما لأنهما وجهان لأمر واحد، فمن أمر بمعروف فهو ناه عن منكر، ومن نهى عن منكر فهو آمر بمعروف.
والحافظون لحدود اللّه: أي القائمون على ما أمر اللّه به، والمجتنبون ما نهى اللّه عنه.
فتلك هى صفات المؤمن في أعلى منازله، وأشرف مراتبه، وأكمل أحواله.
وكل صفة من هذه الصفات لا تتحقق في المؤمن على كما لها إلا إذا وفّاها حقّها، وأداها على الوجه المطلوب أداؤه عليها، وعندئذ يحقّ له أن يوصف بها، ويدخل في أهلها.
وفى الجمع بين هذه الصفات، دون أن يقوم بينها حرف عطف.. ما يشير إلى أنها جميعا بمنزلة صفة واحدة.. وأنه لا تتحقق أية صفة منها إلا إذا تحققت جميعا.. أو بمعنى آخر أن تحقيق أية صفة منها داعية لتحقيق الصفات كلها.
فالتائب، إذا صحّت توبته، وحقق مضمونها، كان عابدا، حامدا، سائحا، راكعا، ساجدا، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، حافظا لحدود اللّه.
والعابد، إذا عبد اللّه كما ينبغى أن يعبد، كان تائبا، حامدا، سائحا، راكعا ساجدا، آمرا بالمعروف، ناهيا عن المنكر، حافظا لحدود اللّه.
وهكذا في كل صفة من تلك الصفات، إذا تحلّى المؤمن بواحدة منها، كانت الصفات الأخرى من حليته!.
وواضح أن هذه الصفات إنما تعطى ثمرتها في ظل الإيمان باللّه، فإذا لم يكن الإيمان قائما عليها، فلا ثمرة لأىّ منها.. ولهذا جاءت هذه الصفات خاصة بالمؤمنين، مقصورة عليهم.
قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} أي وبشّر أصحاب هذه الصفات، الذين هم المؤمنون باللّه، الذين حققوا صفة الإيمان، واستحقوا أن يجزوا جزاء المؤمنين الذين باعوا اللّه أنفسهم وأموالهم، في مقابل ما وعدهم اللّه به، بأن لهم الجنة، وهنأهم بهذا البيع الربيح بقوله: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
فالذين يتصفون بتلك الصفات، هم من الذين اشترى اللّه منهم أنفسهم وأموالهم، ولهم ما للمجاهدين الذين يقاتلون في سبيل اللّه، وما وعدهم اللّه من رضوان وجنة وفوز عظيم.. ذلك أن المؤمن الذي يحقق تلك الصفات في نفسه إنما حققها لأنه رصد نفسه وماله في سبيل اللّه، وفى ابتغاء مرضاته.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11